كنتُ أمشي معها يوماً ما وقَد طالَ بنا الطريق، وَ لكن الجوَّ كان مُنعشاً فأبينا إلا أن نُكملَ
الطريقَ سيراً على الأقدام،كُنتُ أعرض عليها بين التارة والأخرى أن نركبَ الحافلة ولكنها تأبى في كل مَرَّة.. فأحترم رغبتها وبنفس الوقت كنت مستمعة بصحبتها و بالنسمات الربيعية الجميلة فوافقتها وأكملنا المسير.
وَصلنا الهَدفَ المقصود وكُنتُ أسترقُ النظرَ إلى وجهها بين الفينةِ والفينة فأرى العَرقَ يتصببُ منها ومَرةً أخرى أرى وجنتاها قد اكتساهما احمرارٌ جميلٌ يتناسقُ مع بياضِ بشرتها الصافية.
كُنتُ أشعر أن هذه العلامات هي علامات الألم الذي كان يسري في جسدها ولكني بقيتُ صامتةً لا أخالفُ رغبتها في كتمانها للألم رغم شدته. واصلنا السيرَ وكنتُ أستمع إلى أنفاسها تتسابقُ من نزيفِ التعب الذي هطلَ عليها دون رحمة، إلا أنها كانت تتحلى بروحٍ خفيفةٍ مرحة، فتتجاذبُ معيَ أطرافَ الحديثِ وكأنَّ شيئاً لم يَلُمَّ بها،وابتسامتُها العَفوية لا تفارق مُحيَّاها أبداً، فتجبِرُني على الرُّغمِ من قلقي عليها على التبسُّم وتُسرِّبُ إلى روحي السَكينَةَ و الرَّاحة.
بَعد دقائقَ ليسَت بالكثيرة زادت أنفاسها سرعةً و سمعتُ منها آهاً لم أسمعها من قبلُ قطْ!
حينها أذنتُ لنَفسي أن أكسر حاجز الصمتِ بداخلي وأن أقتحم مشاعرها فَسَألتُها: لِمَ لا تجلسين لنأخذَ قسطاً من الرَّاحة؟
فنظرتْ إلى عينيَّ بابتسامة هادئة وأجابتني بصوتها المرتجف: لا تقلقي، أنا بخير..اعتدتُ على الألم!
فقلتُ لها مسرعة: وهَل يُعتادُ على الألم؟
فقالت: ليس اعتياداً بالضبط، ولكنه تأقلمٌ وتعايُشٌ، قد يكونُ هذا صعب في البداية ولكن مع مرورِ الأيام يجدُ المرءُ نفسه قد تأقلم مع الألم و تماشى مَعه و تابَعَ حياتَهُ دونَ الاكتراثْ له.
فقلت لها: ربما.. ولكنهُ ألم! شيءٌ يفتكُ بكِ طولَ الوقتِ،يزيدُ ولا ينقُُصُ إلا نادراً فكيفَ تعايشتِ معه؟
صمتت لبرهة ثم تنهدت وأخذت يدي فشدَّت عليها وقالت: أتعلمين؟ كنتُ سابقاً إذا تألمتُ -ولم يكن الألم متطوراً كما الآن- فلا أذهب إلى الدراسة، أخلدُ إلى الفراش ولا أمارسُ أي عمل حتى الأعمال المنزلية،ولكني مع مرور الأيام ومع عمق التجربة والخبرة في هذه الأوجاع، اكتشفتُ أنني أنا من يجبُ أن أسيطر عليها لا هي..فقررتُ أن أجعلها دافعاً لأعمل أكثر وأجتهد أكثر، فلا أجعلها عائقاً لسيري في الحياة، فأنا شابة في مقتبل العمر لم أرَ شيئاً من الحياةِ بعد. إن حكمتُ على أوجاعي أنها الأشد إيلاماً في الحياة فأكون جاهلة، فهناكَ آلامٌ أشد في بعض المعافين...آلامٌ في القلوبِ والأرواح، ألامٌ في الصدور والعقول..أحمدُ الله على أن علمني معنى الألم.
أتدرين يا صديقتي؟
إن الألم نعمة..علَّمني أن العافية نعمة! وأن السعادةَ هي سعادةُ الروحِ لا راحةَ البدن. إن الألم كلما سَرى في جسدي تذكرتُ أناساً جراحُهُم تنزفُ ولا يجدون من يضمدها لهم!
وأطفالاً على السرائر البيضاءِ يتلوونَ ألماً وليسَ هناكَ من يخففُ عنهم، لا دواءٌ ولا قلب!
إن الألم جعلني واقعية أكثر، أفهمُ الحياةَ أكثر و أحمدُ الله و أذكره أكثر وأكثر.
فهل علمتِ يا صديقتي سرُّ هذا الألم؟
كان فؤادي يرتعشُ وأنا أسمعُ حديثها الزلالِ هذا، كانَت تصبهُ كالماء السلسبيل على قلبي فيبردُ ويطمئنُ.
علمتني كثيراً يا صديقتي، فشكراً لكِ وشكراً للألم!
إلا أنني ومع كل ذلك لا أزال أدعو الله لكِ بالعافية فـ فـ دفء محبتي تأبى إلا أن تراكِ في أحسنِ حال.. وأنتِ كذلك الآن وفي كل حين، ما دمتِ تحملين هذا العقل النيّر و القلب الدافء والروح المنتعشة.
كتبَ الله لكِ الأجر و زادكِ يقيناً و حُباً!
تهاني